فصل: مناسبة الآيات لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (56- 59):

قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما هددهم بإشراكهم المستلزم لكفر النعمة، أتبعه عجبًا آخر من أمرهم فقال عاطفًا على قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} {ويجعلون} أي على سبيل التكرير {لما لا يعلمون} مما يعبدونه من الأصنام وغيرها لكونه في حيز العدم في نفسه وعدمًا محضًا بما وصفوه به كما قال تعالى: {أم تنبئونه بما لا يعلم} [الرعد: 33]. {نصيبًا مما رزقناهم} بما لنا من العظمة، من الحرث والأنعام وغير ذلك، تقربًا إليها كما مضى شرحه في الأنعام، ولك أن تعطفه- وهو أقرب- على {يشركون} فيكون داخلًا في حيز {إذا} أي فاجأوا مقابلة نعمته في الإنجاء بالإشراك والتقرب برزقه إلى ما الجهل به خير من العلم به، لأنه عدم لأنه لا قدرة له ولا نفع في المقام الذي أقاموه فيه؛ ثم التفت إليهم التفاتًا مؤذنًا بما يستحق على هذا الفعل من الغضب فقال تعالى: {تالله} أي الملك الأعظم {لتسئلن} يوم الجمع {عما كنتم} أي كونًا هو في جبلاتكم {تفترون} أي تتعمدون في الدنيا من هذا الكذب، سؤال توبيخ، وهو الذي لا جواب لصاحبه إلا بما فيه فضيحته.
ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهًا هو أعظم من ذلك بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه وغناه عنه على وجه التوالد المستحيل عليه مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى: {يجعلون لله} أي الذي لا معلوم على الحقيقة سواه لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام.
ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله: {البنات} فلا أعجب منهم حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك معجبًا من وقوعه من عاقل بقوله تعالى: {سبحانه}.
ولما ذكر ما جعلوا له مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف فقال: {ولهم ما يشتهون} من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون مناديًا عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم؛ ثم بين حالهم إذا حصل لهم نوع ما جعلوه له سبحانه فقال تعالى: {وإذا} أي جعلوا كذا والحال أنه إذا {بشر أحدهم} ولما تعين وزال المحذور، جمع بين الخساستين كما بين آخر الصافات فقال تعالى: {بالأنثى} أي قابل هذه البشرى التي تستحق السرور بحصول نسمة تكون سببًا لزيادة هذا النوع، وقد تكون سبب سعادته، دالة على عظمة الله- بضد ما تستحق مما لا يفيده شيئًا بأن {ظل وجهه} وكنى عن العبوس والتكدر والغبرة بما يفوز فيه من الغيظ بقوله تعالى: {مسودًا} أي من الغم والكراهة، ولعله اختير لفظ {ظل} الذي معناه العمل نهارًا وإن كان المراد العموم في النهار وغيره دلالة على شهرة هذا الوصف شهرة ما يشاهد نهارًا {وهو كظيم} ممتلىء غيظًا على المرأة ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة: الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا تكون إلا بالخبر الأول، ولعله عبر عنه بهذا اللفظ تنبيهًا على تعكيسهم للأمور في جعلهم وسرورهم وحزنهم وغير ذلك من أمرهم.
ولما كان سواد الوجه والكظم قد لا يصحبه الخزي، وصل به قوله تعالى: {يتوارى} أي يستخفي بما يجعله في موضع كأنه الوراء لا اطلاع لأحد عليه {من القوم} أي الرجال الذين هو فيهم {من سوء ما بشر به} لعده له خزيًا، ثم بين ما يلحقه من الحيرة في الفكر عند ذلك بقوله تعالى: {أيمسكه على هون} أي ذلك وسفول أمر، ولما كانوا يغيبون الموءودة في الأرض على غير هيئة الدفن، عبر عنه بالدس فقال تعالى: {أم يدسه في التراب} قال ابن ميلق: قال المفسرون: كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفيرة وجلست على شفيرها، فإن وضعت ذكرًا أظهرته، وظهر السرور أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها، فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمر بإلقائها في الحفيرة ورد التراب عليها وهي حية لتموت- انتهى.
قالوا: وكان الوأد في مضر وخزاعة وتميم.
ولما كان حكمهم هذا بالغًا في القباحة، وصفه بما يستحقه فقال مؤكدًا لقبحه: {ألا ساء ما يحكمون} أي بجعل ما يكرهونه لمولاهم الذي لا نعمة عندهم إلا منه، وجعل ما يختارونه لهم خاصًا بهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}.
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل القاهرة فساد أقوال أهل الشرك والتشبيه، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم وبين فسادها وسخافتها.
فالنوع الأول: من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لما لا يعلمون نصيبًا وفيه مسالتان:
المسألة الأولى:
الضمير في قوله: {لما لا يعلمون} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى المشركين المذكورين في قوله: {إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النحل: 54]، والمعنى أن المشركين لا يعلمون.
والثاني: أنه عائد إلى الأصنام أي لا يعلم الأصنام ما يفعل عبادها قال بعضهم: الأول أولى لوجوه: أحدها: أن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز.
وثانيها: أن الضمير في قوله: {ويجعلون} عائد إلى المشركين فكذلك في قوله: {لما لا يعلمون} يجب أن يكون عائد إليهم.
وثالثها: أن قوله: {لما لا يعلمون} جمع بالواو والنون.
وهو بالعقلاء أليق منه بالأصنام التي هي جمادات، ومنهم من قال بل القول الثاني أولى لوجوه: الأول: أنا إذا قلنا إنه عائد إلى المشركين افتقرنا إلى إضمار، فإن التقدير: ويجعلون لما لا يعلمون إلهًا، أو لما لا يعلمون كونه نافعًا ضارًا، وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام، لم نفتقر إلى الإضمار لأن التقدير: ويجعلون لما لا علم لها ولا فهم.
والثاني: أنه لو كان العلم مضافًا إلى المشركين لفسد المعنى، لأن من المحال أن يجعلوا نصيبًا من رزقهم لما لا يعلمونه، فهذا ما قيل في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر.
واعلم أنا إذا قلنا بالقول الأول افتقرنا فيه إلى الإضمار، وذلك يحتمل وجوهًا: أحدها: ويجعلون لما لا يعلمون له حقًا، ولا يعلمون في طاعته نفعًا ولا في الإعراض عنه ضررًا، قال مجاهد: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم نصيبًا.
وثانيها: ويجعلون لما لا يعلمون إلهيتها.
وثالثها: ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها معبودة.
ورابعها: المراد استحقار الأصنام حتى كأنها لقلتها لا تعلم.
المسألة الرابعة:
في تفسير ذلك النصيب احتمالات: الأول: المراد منه أنهم جعلوا لله نصيبًا من الحرث والأنعام يتقربون إلى الله تعالى به، ونصيبًا إلى الأصنام يتقربون به إليها، وقد شرحنا ذلك في آخر سورة الأنعام.
والثاني: أن المراد من هذا النصيب، البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وهو قول الحسن.
والثالث: ربما اعتقدوا في بعض الأشياء أنه إنما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام، كما أن المنجمين يوزعون موجودات هذا العالم علىلكواكب السبعة، فيقولون لزحل كذا من المعادن والنبات والحيوانات، وللمشتري أشياء أخرى فكذا ههنا.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين هذا المذهب قال: {تالله لتسألن} وهذا في هؤلاء الأقوم خاصة بمنزلة قوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 92، 93]، وعلى التقديرين فأقسم الله تعالى بنفسه أنه يسألهم، وهذا تهديد منه شديد، لأن المراد أنه يسألهم سؤال توبيخ وتهديد، وفي وقت هذا السؤال احتمالان: الأول: أنه يقع ذلك السؤال عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل عند عذاب القبر.
والثاني: أنه يقع ذلك في الآخرة، وهذا أولى لأنه تعالى قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة فهو إلى الوعيد أقرب.
النوع الثاني: من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لله البنات، ونظيره قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا} [الزخرف: 19]. كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله.
أقول أظن أن العرب إنما أطلقوا لفظ البنات لأن الملائكة لما كانوا مستترين عن العيون أشبهوا النساء في الاستتار فأطلقوا عليهم لفظ البنات.
وأيضًا قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر فأطلقوا عليه لفظ التأنيث فهذا ما يغلب على الظن في سبب إقدامهم على هذا القول الفاسد والمذهب الباطل، ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول قال: {سبحانه} وفيه وجوه: الأول: أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه.
والثاني: تعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح، وهو وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى.
والثالث: قيل في التفسير معناه معاذ الله وذلك مقارب للوجه الأول.
ثم قال تعالى: {ولهم ما يشتهون} أجاز الفراء في {ما} وجهين: الأول: أن يكون في محل النصب على معنى ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون.
والثاني: أن يكون رفعًا على الابتداء كأنه تم الكلام عند قوله: {سبحانه} ثم ابتدأ فقال: {ولهم ما يشتهون} يعني البنين وهوكقوله: {أم له البنات ولكم البنون} [الطور: 39]. ثم اختار الوجه الثاني وقال: لو كان نصيبًا لقال ولأنفسهم ما يشتهون، لأنك تقول جعلت لنفسك كذا وكذا، ولا تقول جعلت لك، وأبى الزجاج إجازة الوجه الأول، وقال: {ما} في موضع رفع لا غير، والتقدير: ولهم الشيء الذي يشتهونه، ولا يجوز النصب لأن العرب تقول جعل لنفسه ما تشتهي، ولا تقول جعل له ما يشتهي وهو يعني نفسه.